الشخصية الماديّة والشخصية السويّة
الصديق: عبدالمحسن العتيبي
- أبريل 12, 2020

أزمة وباء كورونا تقلب العالم كساعة رملية انتهت دورتها الزمنية وحان الوقت لقلبها كي تبدأ دورةً زمنيةً جديدة. هذا التحوّل الجذري يأتي من مصدر ليس ببشري يدفع المجتمعات البشرية بنخُبها وكافة طبقاتها الاجتماعية والعرقيات المختلفة والأديان المتنوّعة بعباداتها المتشابهة؛ كي تتحّد لأول مرةٍ منذ فجر التاريخ. فنستبصر بالتنوير فجراً جديداً سيبدأ عمّا قريب، تُضيء شمسه آفاق هذا الكون الجميل. ننشر آيات التعاون والمحبة بيننا، وننفخ جميعاً من أرواحنا في السماء غيوماً تُمطر الأرض رحمة، يدفعها نسيمُ الليل تحت ضوء القمر فينبت على مسيرها بساتينٍ ينعم الجميع بالسعادة في أطرافها.
هذا التحوّل الإنساني يفرض بشكل حتمي أسئلةً وجودية على الأفراد المُختبئين في بيوتهم خوفاً من الوباء. كما جرت العادة (عندما يظهر شبح الموت تُثار الكثير من التساؤلات). ولو قمنا بعمل استفتاء بسيط عن أكثر تساؤل طُرح في هذه الأيام الممّلة للغالبية العظمى لوجدنا تساؤلاً واحداً فقط (من أنا؟).
وللإجابة على هذا التساؤل بعث الله أنبياء ورسل، وأنزل كتباً وذِكراً من عنده، وحاول الفلاسفة والمفكرين بتيّاراتهم المتشعّبة، وعلماء النفس بمدارسهم المختلفة الإجابة عليه. فكانت كل ثقافة ترى الحقيقة من زاوية خصوصيتها الثقافية، مُقدّمةً تفسيراً يتّسق مع طبيعتها وتكوينها الاجتماعي، ومنهجاً للوصول الى الذات ومعرفتها. من خصوصيّتي الفردية المتواضعة سأحاول في هذا النص البسيط تقديم تصوّر بسيط لطبيعة الشخصيات في المجتمع، وأزعم من وجهة نظري المتواضعة أن الشخصيات في هذه الفترة الزمنية من التاريخ تحديداً تنقسم الى: شخصية ماديّة و شخصية سوية.
الإنسان روح وجسد
الإنسان تنقسم حاجاته إلى: حاجات فيزيولوجية (الماء، الطعام، الجنس….)، والحاجة إلى الانتماء. عدم إشباع الحاجات الفيزيولوجية يؤدي إلى ضمور الجسد، وعدم إشباع الحاجة إلى الانتماء يؤدي إلى ذبول الروح. وتحقيق التوازن بينهما بعد إعطاء كل مكّون حاجته هو التكامل الذاتي. ومن الطبيعي أن غريزة البقاء لدى الإنسان تدفعه إلى إشباع حاجاته الفيزيولوجية، وعلى النقيض من ذلك يتعثّر الكثير من الإفراد في إشباع حاجتهم إلى الانتماء، فيمسخ الإنسان ذاته بابتعاده عن روحه، والاكتفاء بجانبه المادي. فتنشأ حالة (القلق الوجودي) نتيجة للفراغ الروحي. فتصبح هذه الشخصية المادية أشبه بالهامستر الذي يدور في عجله. يدور ويدور ويدور بحثاً عن غايات أربع لا نهاية لها: المال، السلطة، السمعة، الجنس المَرَضي.
إضافة إلى هذا الدوران يعرّض نفسه إلى أكبر قدرٍ من المؤثرات الحسيّة كـ الأغاني، والأفلام، وتصفح السوشيل ميديا المستمر، والطعام غير الصحي، والكثير من العادات التي تحرّك الغالبية من المجتمع. وحينما يعود إلى سريره مُتعب الروح، يظهر له الفراغ الداخلي في هيئة اكتئاب نفسي وإحباط معنوي، يظهر حينما يختبئ بعيداً عن الرقابة الاجتماعية، ثم يعود إلى نفس التساؤل من جديد ليقول (من أنا؟).
لو أمعنّا النظر في هذه الشخصية المادية لاستطعنا اختزالها في هذه المعادلة الحسابية ( أنا = ما أملك من مال + ما أستهلك من مال). فلا يمكن أن تتوقف هذه العملية الأبدية من امتلاك كل شيء حوله إلى استهلاكه حينما يصاب بالملل منها. ولن تنتهي هذه المعضلة الوجودية ما لم يعترف بوعي بالمشكلة نفسها، ويعود أدراجه إلى تحقيق التوازن بين الجسد والروح. ينتمي إلى الله في علاقة اتصال عمودية وحيدة، تتوسّط علاقات الحب الأفقية مع الإنسانية كانتماء يتجاوز أبعاد الخصوصية الثقافية ويتحد مع العالم. فيصبح سوياً، متناغماً، ومتماهياً مع الوجود مثل الرياح في مسيرها وطيبها، لا النار في اشتعالها وإحراقها لكل شيء حولها حتى تحرق في النهاية نفسها فلا يتبقى إلا الرماد.
ويجدر بالذكر هنا حتى أرفع اللَبس عن المعيار الفاصل بين الشخصية المادية والشخصية السوية هو رؤية كل شخص للعوامل المادية. فالإنسان السوي يرى أن العوامل المادية كالمال مثلاً، ليس غايةً في ذاته بل وسيلة لتحقيق حياة سعيدة وأكثر رفاهية، والإنسان المادي يرى العوامل المادية غاية في ذاتها مصحوبةً بقلق أبدي للزيادة.
الشخصية السوية تغوص داخل ذاتها تأملاً، وتكتشف قدراتها الكامنة، وتركز عليها وتطورها بشكل طبيعي، كما تتطوّر الفراشة. فهي تمتلك الخيار في تقرير مصيرها، وتوجيهها بشكل صحي، دون أي تدخل من خارجي. متجاوزةً بذلك البحث عن الاعتراف من الآخر، والبحث عن السلطة؛ لأنها أعادت التوازن وشَعُرت بوجودها كوحدة متكاملة تتحكم في الواقع و مستقّلةً عن الجميع. تتغذى على العطاء للجميع لا الأخذ منهم فقط. تتخلّص من رواسب الأنانية لتصبح نقيّة بالإيثار. فتتمزّق الشرنقة حباً وتطير جمالاً ترى الله كأنه يراها، فإن لم تكن تراه فهو يراها.
0
0
votes
معدّل التقييم
شكرا عبدالمحسن مقال مثري 🙏🏻💚
مقال عظيم جدا كل الشكر للكاتب الفاضل
مقال من علوم الفلسفة الأخلاقية لأفلاطون وكانط، استمتعت بقراءة مقالك عبدالمحسن وثروتك اللغوية ونظرتك الفكرية، شكراً لإثرائنا به..
الاتزان دلالة صحية ونضج صاحبها، شكرا عبدالمحسن على النظرة من زاوية جديدة
اضافه جميله اخي عبدالمحسن ورؤيه عميقه. لو رأينا الشخصيتين من زاوية الشاكرات نرى ان الماديه تعمل او عالقه في الشاكرات السفليه( مال،سلطه وجنس) .. اما السويه هي اللتي ارتقت من السفليه الى الشاكرات العلويه.. اود ان اضيف الشخصيه الطوباويه وهي العالقه في الشاكرات العلويه.